استيقظ الأب وهو يشعر بأن الضعف غزا جسده ، هكذا مضي قطار العمر سريعا وبمرور الأيام تزداد ثروته وتتراجع صحته ، الآن هو يفكر في ابنه ذلك الفتى الخام الذي لم تعركه الحياة ، كيف ينقل إليه خبرته ؟
لو استطاع أن يكتبها بمداد قلبه ويصبها بداخله لفعل ، لقد كان شابا ويعرف كيف يسمع الشباب بنصف أذن لذوي الخبرة ثم يلقون ما سمعوه في المهملات ، ليس أمامه سوي النصائح ولكن النصائح فخاخ قد تصيب أو لا ، فهب أن الولد استمع للنصائح وخاب أثرها هل يفقد ثقته بأبيه ؟ وماذا يفعل ليجعله يدرك أعمق دروس الحياة ؟
ــ سوف تذهب بدلا مني يا بني هذه المرة.
أحس الفتي بوقع هذه الكلمات علي نفسه يكاد يشتته ، إن أبيه تاجر كبير حسن السمعة كثير الصلات ، أما هو فمجرد طالب في السنة قبل النهائية بكلية الهندسة ولا يكاد يعرف شيئا عن تجارة أبيه.
ـ أردف الأب: أرهقتني كثرة الأسفار وآن الأوان لتساعدني وتعرف أسرار العمل.
استمع الفتي لشرح مطول من أبيه عن حجم تجارتهم وأهم العملاء وتفاصيل المهمة الأولى له في هذا العالم الذي كان الفتي يراه من قبل كما لو كان عالما مسحورا لا يملك هو شيئا من تعاويذه السرية.
وأخيرا قال الأب: اسمع يا بني سوف تمضي الأمور علي ما يرام بإذن الله خاصة أن الصفقة شبه منتهية كل ما أريده منك أن تسلم للعميل العقود الموقعة وتستلم منه المال وتحوله فورا علي حساب شركتنا ، ولكن اسمعني جيدا...
هناك ثلاث نصائح تعد من حقائق الحياة التي خرجت بها من عالم التجارة التزم بها حرفيا ثم ركز عينيه في عينيه وركز علي كل حرف ينطقه:
لا تتأخر عن موعدك مهما كانت الظروف.
لا تثق في الغرباء
لا تبرم صفقة لا تعرفها جيدا.
استيقظ الفتي فزعا في الفندق الذي نزل به ونظر للساعة وقلبه يكاد يتوقف وصرخ قائلا (سامحني يا أبي) فها هي الوصية الأولي لم يعمل بها وقد استغرق في النوم ولم يشعر برنات المنبه.
في الطريق حاول إيقاف سيارة أجرة لتوصله إلي العنوان المطلوب خاصة أن والده أفهمه أن العنوان صعب بعض الشئ ولكن كلما استمع سائق للمكان المقصود أشاح بيده وتركه هاربا ، وأخيرا توقفت سيارة خاصة بجواره أطل منها رجل وقور ودعاه للركوب معه لأنه متجه لنفس المكان ، تردد الفتي لثوان ولكنه في النهاية وجد أن لا مفر من الاستجابة وركب السيارة وهو يهمس (سامحني يا أبي)
في الطريق تعرف علي الرجل الغريب واندمج معه في حوار جعله لا يشعر بالوقت وحين وصل فوجئ أن الغريب هو العميل الذي يقصده.
طلب منه الرجل أن يؤدي له بعض الخدمات بعد أن شعر بالثقة فيه وقام الفتي بكل ما طلبه منه الرجل بأمانة وعلي أكمل وجه وفي النهاية قال له الرجل: اسمع يا بني أنا بصدد تصفية شركتي هذه بعد أن كبر سني وسوف أعود لبلدي الأصلي لأقضي ما بقي لي من عمر مع ابنتي الوحيدة فما رأيك أن تشتري بما معك من مال البضاعة الموجودة لدي وهي تساوي أكثر من ذلك ؟
تذكر الفتي النصيحة الثالثة لأبيه ولكنه في النهاية اقتنع بإبرام الصفقة قائلا في نفسه (المبلغ ليس كبيرا) وللمرة الثالثة في يوم واحد يقول (سامحني يا أبي).
استمع الأب لتفاصيل رحلة ابنه وقد أخذت مشاعره تتضارب وتتناقض ، فهو سعيد بنجاحه في مهمته الأصلية وأكثر سعادة بالصفقة الرابحة التي أبرمها ولكنه يشعر أن كل الأسس والقواعد التي حاول أن يعلمها لابنه أثبتت الأحداث عكسها.
سنوات كثيرة مضت حتى تعلم الفتى أصول التجارة والعمل بنفسه ونضجت شخصيته وأخيرا تقاعد أبوه وسلمه منصبه كمدير للشركة وكان أول ما فعله هو تعليق لوحة فوق مكتبه في مواجهة الداخل ، بها خلاصة خبراته وحكمة الحياة التي توصل لها.
كان مكتوبا فيها. حتى لو صادفتك استثناءات فإن حقائق الحياة التي تعلمتها من أبي وأثبتتها الأيام هي:
لا تتأخر عن موعدك أيا كانت الظروف
لا تثق في الغرباء
لا تبرم صفقة لا تعرفها.